الكاروتشي
إيمان جوهر حيات
9/25/2017
إنسان ملتزم جداً ومخلص في عمله، ويؤدي المهام المنوطة به باحتراف وإتقان، أمين ومثابر، حيث يعمل لساعات طويلة من دون أي راحة، وبلا أجر إضافي، والأدهى أنه يتحرج من أخذ حقه من الإجازات والعطل الرسمية، خوفاً من أن ينظر إليه زملاؤه بأنه شخص ضعيف ولا يعتمد عليه. طبعاً أقصد الموظف «الياباني»، الذي بسبب هذا الضغط الشديد شهدت بلاده حالات عديدة من الكاروتشي (الموت من كثرة العمل)، وكذلك الانتحار. وعليه أطلقت الحكومة اليابانية حملة لإصلاح نهج العمل لتحسين اقتصادها، ومنع الموظفين من العمل حتى الموت. واتجهت إلى إعطاء الحوافز المالية لمن يغادر عمله مبكرا، وتقليص عدد ساعات العمل، وسعت إلى تحقيق ذلك بكل الوسائل، لحث الموظفين على الراحة وتخفيف الضغط عليهم. وعلى الرغم من صعوبة تحقيق الحملة أهدافها، وذلك لأسباب عديدة، فإن اليابان لن تترك هذا الموضوع يمر من دون وضع الحلول الجذرية له. واقترح على حكومتي الرشيدة أن تشكل وفداً من موظفي الدولة المتقاعسين والفاسدين، ولا تشمل المخلصين، وترسلهم إلى اليابان، ربما يستطيعون من خلال خبراتهم أن ينقذوا أرواح الكثير من اليابانيين، الذين لا يرحمون أنفسهم من العمل، ويعلمونهم بعض السلوكيات الاتكالية والفوضوية من عدم احترام النظم واللوائح، وعدم الالتزام بالمواعيد، والأنانية والفردية والغش والكذب والتخاذل ورشة من الفساد الذي قد ينقذ أصدقاءنا اليابانيين من أن ينالوا حتفهم بالكاروتشي.
وهنا قد نكون اصطدنا عصفورين بحجر: الأول هو إنقاذ اليابانيين من الموت، والثاني إتاحة المجال للمخلصين في الوطن للعمل في أجواء صحية بعيدة عن عبث ومضايقة الفاسدين.
وأتمنى، رغم أني استبعد ذلك، أن يتأثر هؤلاء الفاسدون بالقيم والأخلاق الرفيعة والراقية التي يتحلى بها اليابانيون (وينصلح حالهم المايل).
للأسف مجتمعاتنا العربية والإسلامية غارقة بالفساد، وذلك رغم أنها تتغنى على الدوام بالمُثل وبضرورة الالتزام بالعمل والإتقان والأمانة والصدق.. إلخ، والحقيقة هي مجتمعات معظمها بلا روح، يفتقد أغلبها الحياة والقيم والأخلاق، ويسودها الكذب والنفاق، فما نراه لا يعكس الواقع، بدليل تردي الأوضاع الاقتصادية والتخلف، والتراجع الذي تعاني منه معظم بلداننا العربية والإسلامية دون المحاولة الجدية للإصلاح والتغيير!
ويعود ذلك إلى أسباب عديدة منها:
ضعف مؤسسات المجتمع المدني، ومخالفة اللوائح والقواعد التي تنظم عمل المؤسسات في الدولة، وانعدام الشفافية، وعدم وضوح حقوق الأفراد وواجباتهم.
ولا نغفل سوء الأوضاع الاقتصادية التي تمر بها المجتمعات نتيجة الصراعات والنزاعات وارتفاع تكاليف المعيشة، التي تؤدي إلى ممارسة أنواع من الفساد الإداري والمالي وضعف الرقابة.
غياب الأخلاق وتفشي الواسطة والمحسوبية والمحاباة في التعيينات والترقيات، وفي أغلب مظاهر الحياة، مما يخلق لدى المواطن البسيط الشعور بالإحباط الذي يقوده في كثير من الأحيان إلى الانحراف والتمرد. وكذلك عدم احترام الاختلاف وغياب مفهوم المواطنة والتعايش.
كل هذه الأسباب تغلبت عليها اليابان بحكمة وحنكة، عندما ركزت على البرامج التعليمية، التي تراجع كل عشر سنوات تقريبا للتطوير والتغيير، بما يتوافق مع الحاضر والمتعلقة بالأخلاقيات والسلوكيات وتنمية روح المواطنة واحترام الآخر، في كل المراحل العمرية، ليس من خلال المدرسة فحسب، بل كذلك في البيت والمجتمع. كما أن القوانين تطبق بعدالة ومن دون تمييز على كل المخالفين.
ولديهم الإحساس بالعيب والخجل المجتمعي من التعدي على المثل والأخلاقيات العامة في المجتمع، فإذا أذنب أو أخفق المواطن في واجبه، يشعر بالذنب الشديد، وغالباً ما ينتحر لتطهير سمعته من ذلك العار والفضيحة، اللذين لا يمحوهما السجن أو الاستقالة بالنسبة له.
هل صادفتم في مجتمعنا العربي والإسلامي فاسداً واحداً «حس على دمه» واعترف بفساده أمام الملأ واعتذر؟
وخلاصة القول إن المجتمع الياباني رغم تعدد الديانات والاعتقادات به، فإن الجميع متوافق، والاحترام بينهم هو السائد، ويعملون جميعاً لخير المجتمع ورفعته. والسؤال: هل من الممكن أن تستفيد مجتمعاتنا من التجربة اليابانية؟