اللوبي الإسرائيلي والقرار الأمريكي

كيف نشأ الكيان الصهيوني ولماذا يتحكم في موازين القوى بينما يغرق الشرق الأوسط في الفوضى؟

إيمان جوهر حيات

2/13/2025

منذ نشأة الكيان الصهيوني، لم يكن وجوده مجرد نتيجة لتغيرات جيوسياسية عابرة، بل كان مشروعًا استعماريًا مدروسًا زرعته القوى الغربية في قلب الشرق الأوسط وشمال إفريقيا لضمان استمرار الهيمنة على هذه المنطقة الاستراتيجية. فمنذ وعد بلفور عام 1917، وحتى إعلان قيام إسرائيل عام 1948، كانت تل أبيب تتلقى دعمًا غير محدود من بريطانيا، ثم من الولايات المتحدة، مما مكنها من التحول إلى مركز يخدم المصالح الغربية بفعالية. لكن هذا الكيان لم يعتمد فقط على القوة العسكرية والدعم السياسي، بل أدرك منذ البداية أن النفوذ الحقيقي لا يتحقق بالقوة وحدها، وإنما من خلال التحكم في أدوات التأثير الناعمة، مثل الإعلام، التعليم، الاقتصاد، والثقافة. ومن خلال هذه الأدوات، أحكمت إسرائيل قبضتها على مراكز صنع القرار العالمي، وفرضت هيمنتها على الخطاب السياسي والإعلامي، بينما بقيت دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا غارقة في أزماتها الداخلية، عاجزة عن بناء مشروع استراتيجي لمواجهة هذا التمدد.

لم يكن النفوذ الإسرائيلي في الولايات المتحدة وليد الصدفة أو مجرد نتيجة تحركات دبلوماسية، بل كان جزءًا من استراتيجية متكاملة لاختراق المؤسسات الأكاديمية ومراكز الأبحاث. فمن خلال تمويل كبار المانحين الموالين للكيان الصهيوني للجامعات الكبرى، نجحت إسرائيل في إعادة تشكيل الفكر الأكاديمي الأمريكي ليصبح أكثر انحيازًا لها.

تقرير نشرته Times Higher Education في أكتوبر 2023 كشف كيف أن المانحين الموالين للكيان الصهيوني هددوا بسحب دعمهم المالي من جامعات مثل هارفارد وبنسلفانيا بسبب مواقفهم تجاه الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، مما يعكس مدى التأثير الإسرائيلي العميق في دوائر صنع القرار الفكري والسياسي في الولايات المتحدة.

لكن هذا النفوذ لم يقتصر على إعادة توجيه المناهج الأكاديمية والتأثير على الأبحاث، بل شكّل قاعدة أساسية لإعداد نخبة سياسية وإعلامية تدافع عن إسرائيل وتتبنى سرديتها في المؤسسات الحكومية والإعلامية. فمن الجامعات إلى مراكز الأبحاث، ومن قاعات المحاضرات إلى لجان الكونغرس، تم بناء شبكة من الشخصيات المؤثرة وقد ساهمت هذه الاستراتيجية في ترسيخ دعم سياسي أمريكي ثابت لإسرائيل، بحيث أصبحت مصالحها متجذرة في صلب القرارات الأمريكية، بغض النظر عن انتهاكاتها المستمرة للقوانين الدولية وحقوق الإنسان.

هذا الاختراق الأكاديمي لم يكن قائمًا بمعزل عن أدوات التأثير الأخرى، بل كان جزءًا من منظومة متكاملة تشمل الإعلام، السياسة، والاقتصاد، حيث تعمل هذه الأدوات بشكل مترابط لتعزيز الهيمنة الإسرائيلية. فبينما يتم تشكيل الفكر السياسي للنخب داخل الجامعات ومراكز الأبحاث، يجري في الوقت نفسه التحكم في تدفق المعلومات عبر وسائل الإعلام، لتوجيه الرأي العام والتأثير على مواقف الجماهير وصناع القرار على حد سواء. وقد أدرك الكيان الصهيوني أن الإعلام هو السلاح الأقوى في معركة تشكيل الإدراك الجمعي، وإعادة صياغة الحقائق بما يخدم مصالحه. وهو يمتلك نفوذًا واسعًا داخل كبرى الشبكات الإخبارية الغربية مثل CNN، The New York Times، وFox News، مما يسمح له بالتحكم في تدفق المعلومات وصناعة الرأي العام العالمي. لم تقتصر هذه السيطرة على إنتاج الأخبار، بل امتدت إلى كيفية معالجة الأحداث والتلاعب بالسياقات التاريخية والسياسية، حيث يتم تقديم إسرائيل كضحية دائمة، بينما يتم تصوير الفلسطينيين والعرب على أنهم معتدون أو تهديد أمني مستمر.

أحداث 7 أكتوبر 2023 كشفت بشكل واضح مدى إحكام إسرائيل قبضتها على أغلب منصات الإعلام الغربي، حيث قامت بالتأثير على منصات التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك وإنستغرام، مما أدى إلى فرض رقابة ممنهجة على المحتوى المؤيد لفلسطين، وتقييد انتشاره بشكل صارم بهدف منع أي رواية تتحدى السردية الإسرائيلية الرسمية. هذا التلاعب لم يكن عشوائيًا، بل جاء كجزء من حملة إعلامية موسعة، استخدمت فيها إسرائيل نفوذها داخل كبرى شركات التكنولوجيا العالمية لضمان احتكارها للرواية الإعلامية، ولمنع وصول أي محتوى يتعارض مع مصالحها إلى الجماهير الغربية.

وإدراكًا منها لأهمية التأثير الثقافي، لم تكتفِ إسرائيل بالهيمنة على الإعلام التقليدي، بل امتدت إلى صناعة السينما كوسيلة لغرس روايتها في العقل الغربي. سيطرت العائلات اليهودية الداعمة للكيان الصهيوني على استوديوهات هوليوود الكبرى مثل وارنر براذرز، باراماونت، مما مكّنها من توجيه الأفلام والمسلسلات لتعزيز صورتها الإيجابية وتشويه صورة العرب والمسلمين. تم تصوير إسرائيل كدولة ديمقراطية تدافع عن نفسها في مواجهة “الإرهاب”، بينما استُخدمت السينما كأداة لتطبيع العلاقات بين إسرائيل والعالم العربي، وإعادة صياغة الوعي الجمعي بحيث تصبح القضية الفلسطينية مجرد تفصيل هامشي لا يستحق الانتباه.

لكن الهيمنة الإسرائيلية لم تتوقف عند الإعلام والثقافة، بل امتدت إلى التكنولوجيا والصناعات المتقدمة، حيث استثمرت إسرائيل بشكل مكثف في مجالات الذكاء الاصطناعي، الأمن السيبراني، والتكنولوجيا العسكرية، مما جعلها شريكًا رئيسيًا لكبرى شركات التكنولوجيا الأمريكية والأوروبية. هذه الهيمنة منحتها قدرة غير مسبوقة على التجسس والتحكم في المعلومات، عبر برامج مثل “بيغاسوس” الذي تم استخدامه للتجسس على صحفيين ومعارضين سياسيين. كما أن إسرائيل تتحكم في العديد من البنى التحتية السيبرانية للدول الغربية، مما يمنحها نفوذًا استراتيجيًا عميقًا يتجاوز بكثير النفوذ العسكري التقليدي. إدراك إسرائيل لأهمية التكنولوجيا لم يكن مجرد خيار، بل كان جزءًا من استراتيجية متكاملة تهدف إلى بناء قوة مستدامة تضمن لها البقاء والتفوق لعقود قادمة. ولم تقتصر استراتيجيتها على تطوير البحث العلمي والتكنولوجيا، بل حرصت على استقطاب العقول المهاجرة، واستغلال الخبرات العالمية لتعزيز تفوقها التكنولوجي.

على الجانب الآخر، تعاني دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا من غياب رؤية استراتيجية موحدة، حيث بقيت منقسمة، تتخبط في صراعات داخلية وإقليمية، مما جعلها عاجزة عن بناء مشروع متكامل لمواجهة هذا النفوذ المتصاعد. رغم امتلاكها موارد هائلة وإمكانات بشرية كبيرة، إلا أن الانقسامات الداخلية، وغياب الاستثمار في البحث العلمي والتطوير التكنولوجي، جعلها غير قادرة على صياغة استراتيجية واضحة تعزز من مكانتها في المعادلة الدولية. وبينما تبني إسرائيل قوتها من خلال استثمار طويل الأمد في المعرفة والتكنولوجيا والتحالفات الاستراتيجية، لا تزال دول المنطقة عالقة في حسابات سياسية قصيرة المدى، مما يجعلها عرضة للضغوط الخارجية والتبعية الاقتصادية والعسكرية.

إن مواجهة هذا الواقع لا يمكن أن تظل محصورة في اجتهادات فردية أو ردود أفعال متأخرة، بل تتطلب تحالفًا إقليميًا واسعًا يعيد صياغة الأولويات، ويبني رؤية استراتيجية بعيدة المدى تستثمر في التعليم، الإعلام، التكنولوجيا، والاقتصاد، تمامًا كما فعلت إسرائيل لعقود. مواجهة نفوذ بني على تحالفات متينة لا يمكن أن تتم بمنطقة تعاني من الانقسامات والاضطرابات، بل تحتاج إلى إرادة سياسية موحدة تعيد ترتيب الصفوف، وتستثمر في بناء شراكات استراتيجية تضمن لها مكانًا في معادلة القوة الدولية، بدلًا من أن تبقى خاضعة لإملاءات الخارج.

أما آن الأوان لهذه المنطقة أن تستفيق من دوامة الصراعات التي لا تنتهي؟ أن تدرك أن الحروب التي استنزفت مقدراتها لعقود لم تخلّف وراءها سوى الخراب والمآسي؟ كم من قرية ومدينة يجب أن تُهدم، وكم من عائلة يجب أن تُشرد، وكم من طفل يجب أن يكبر وهو لا يعرف سوى لغة اللجوء والحرمان، قبل أن تصبح هناك رؤية حقيقية لمستقبل الأجيال القادمة، لا تقوم على ردود الأفعال، بل على بناء مشروع استراتيجي يضع هذه المنطقة في موقع الفاعل، لا التابع؟ إلى متى ستظل العواصم غارقة في خلافاتها، بينما يُعاد تشكيل مستقبلها على موائد القوى الكبرى؟ هل سنشهد يومًا يقظة تعيد لهذه الأمة زمام المبادرة، أم أن مصيرها سيظل مرهونًا بقرارات تُتخذ في عواصم القوى المهيمنة!