التكنولوجيا والتحضر

إيمان جوهر حيات

2/24/2019

في التجمّعات البسيطة كانت العلاقة بين الناس تحكمها أعراف وتقاليد تسيطر على العقل الجمعي للأفراد لخلق أجواء يسودها التكاتف والوحدة (والفزعة) لحماية هذا التجمّع الصغير المتجانس من غزوات قطاع الطرق وأطماع البعض الشرهة، أما المدينة فهي التي تضم مجموعة أكبر من الأفراد مختلفين في انتماءاتهم ومعتقداتهم وأفكارهم، وكل ما يجمعهم هو رقعة أرض واحدة ضمن المنظومة الدولية التي تحفز الدول على ممارسة الديموقراطية والالتزام بمبادئ حقوق الإنسان لتستطيع أن تحظى بالاعتراف والدعم الدوليين لسيادتها. في المدينة الأفراد مواطنون، لهم حقوق مكفولة دوليا ولا يجوز التمييز بينهم، ولتطبيق تلك العدالة يجب غرس ثقافة مدنية تحتفي بالإنسان مجردا من كل اعتبارات شكلية واعتقادية، وإتاحة المجال لهم للتعبير عن آرائهم، حتى وإن كانت مختلفة عمّا هو سائد، وفتح سبل الحوار ودعمها بكل الوسائل وافساح المجال للمنهج العلمي لإقرار الحقائق. الخوف من الجديد وعدم تقبل التغيير هو أقصر سبيل للزوال، فلولا تلك الأفكار الناقدة والمختلفة التي اصطدمت مع «التابوهات» الفكرية لما تطور العلم ولما حظينا بهذا الانفتاح الذي أغدق علينا بالابتكارات والاختراعات المهمة والتي من دونها لا نستطيع الاستمرار والبقاء. لو نظرنا ـــ على سبيل المثال ـــ إلى العصور الوسطى وكيف تصادم كوبرنيكوس وكبلر وغاليليو مع اعتقادات الكنيسة والأفكار السائدة آنذاك، والتي ضمنها الاعتقاد بمركزية الأرض الذي دحض بالدليل والبرهان، وما ترتب على هذا التصادم من نهضة فكرية غيّرت كل المقاييس وأحدثت ثورة علمية هائلة أصبحت جزءا لا يتجزأ من حياتنا اليوم، فسنجد أن هذا التصادم ظاهرة حميدة تتجدد من خلالها الأفكار وتغيّر نظرتنا للأمور توافقا مع متغيرّات الزمن.

فمن منكم مثلا يستطيع الاستغناء عن الإنترنت الذي جعل من هذا العالم المتّسع قرية صغيرة يربطها بعضها ببعض بضغطة زر واحدة أو بالأصح لمسة زر؟!

ماذا يحدث لو تعطلت شبكة الإنترنت لدولة ما؟ لن يتأثر الأفراد فحسب، بل ستتأثر البنوك والبورصة وشركات الطيران.. الخ، ويتأثر الاقتصاد بشكل جلي، وتتكبّد الدولة خسائر فادحة في حال توقّف الإنترنت.

هذا الترابط العالمي أصبح أمرا واقعا لا يمكننا تجاهله، ولن نكون جزءا من تلك المنظومة الدولية المترابطة بفعل التكنولوجيا ان لم نطور العقول لتقبل الواقع، والانفتاح على كل الثقافات المختلفة، والاستفادة من ذلك التنوع.

قدرتنا على امتلاك تلك التكنولوجيا المتطورة لا تعني أننا متحضرون! فالتحضّر الحقيقي يستدعي منا الخروج من صومعة الجمود والتعصّب إلى ثقافة تتسم بالمرونة وقابلة للتمدّد تماما، كما هي حال هذا الكون الفسيح المتسارع بالاتساع والتمدد.

نحن نعيش في فجوة زمنية اختلقتها السياسات المستبدة على مدى العصور لتهيمن وتسيطر على الشعوب، والخروج من تلك الفجوة يتطلب إدراك ان المال وسيلة وليس غاية، وأن السيادة تنبع من وعي الشعوب وصون كرامتهم وليس بتجهيلهم وقمع حرياتهم.